يتناقل بعض الناس شبهات إبليسية ويصيغونها بصيغة سؤال تشكيكًا في أهمية التوحيد فيقولون: ما علاقة توحيد الله وتأثيره في مجالاتِ الحياة الدنيوية المادية عموماً؟وما مدى تأثير التوحيد عليها خصوصاً؟ وهل يستحقُ الأمرُ أن نهتم بالتوحيد ونشره وتعليمه والدعوة إليه إلى هذا الحد؟!" فأقول مستعينا بالله جل وعلا :
هذه الشُبهات المتوجهة لأمر ومقام التوحيد، ابتلي به المسلمون منذ القدم ،وفي هذ العصر خصوصاً من قبل أهل الأهواء والبدع وخصوصاً جماعتي التبليغ والإخوان، والليبراليين وغيرهم.
ولرد هذه الشبهة يجب أن نبين أنه من المقرر عقلاً وبداهةً أن الوجود عبارة عن كينونات ينظم بعضها إلى بعض فتكوّن عدة منظومات، فهنالك منظومة أسرية ،واجتماعية، واقتصادية وأخرى سياسية حاكمة، وتلك قضائية، ناهيكم عن المنظومة التعليمية والدعوية، وهذه كينونات تؤدي دورها بتناغم وتوافق واتساق مع المنظومات الأخرى، وينظم بعضها إلى بعض لتكون منظومات أكبر، وهذه الكينونات والمنظومات لها عللٌ في وجودها وعلائق فيما بين بعضها، ويعتمد بعضها في استمراريته على وجود بعض آخر؛ لتكوّن منظومة الحياة الكاملة، وأغلب هذه الكينونات لابد أن تدخل في تنظيم الدولة؛ لذلك تجتهد الاتجاهات الأخرى لاختراق هذه الكينونات حتى يكون لها السيطرة على المنظومة العامة للدولة.
وعندما نأخذ مثالاً حقيقياً والذي يقصه علينا هو الله جل وعلا والذي يعطينا أسباب حوادثه هو الله ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (٨٧)﴾ [النساء: 87] فيحدثنا الله عن صاحب الجنتين والعزة والمنعة الدنيويتين المنقطعتين، فقد كان لهذا الرجل جنتين ،تحوي أنواع المنتجات الزراعية ومكنَ اللهُ لصاحبها من تهيئتها ،حتى اغتر بعظمتها وكثرة انتاجها وعوائدها من الذهب والفضة. وافتخر على صاحبه المؤمن وهو يحاوره في الحديث والغرور يملؤه قائلًا ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (٣٤) ﴾ [الكهف: 34] ، أنا أكثر منك مالا وأعز أنصارًا وأعوانًا، كما يفتخر العالم الغربي وغيره علينا، بأنهم أحسن اقتصاداً وأقوى جيشاً…الخ.
ثم قال صاحبُ الجنتين ﴿مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا﴾ [الكهف: 35] ، فاغتر بجنتيه التي قال الله تعالى عنها :﴿آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ﴾ [الكهف: 33] أي :وقد أثمرت كل واحدة من الحديقتين ثمرها، ولم تُنْقِص منه شيئًا، كحال العالم الغربي في زماننا والذي افتتن به ابناؤنا وزعموا أنه استغل جميع الموارد البشرية والطبيعية بذكاء وبكفاءة عالية وباستخدام أحدث النظريات والتقنيات، فصاحب الجنتين أخذ بجميع الأسباب الدنيوية المادية، ونجح في ذلك نجاحاً باهراً لدرجة أن الجنتين أعطت أقصى طاقتها الإنتاجية ﴿وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف: 33] ،ولكنه عطاء منقطع؛لأنه لم يتصل بالتوحيد، لذا أصيب صاحب الجنتين بعذاب الله الشديد ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (٤٢)﴾ [الكهف: 42] فانتهى كل شيء وانهارت قواه التي كان يتبجح بها وبقوته اقتصاده، وكثرة جمعه، وجنده ونفره ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ [الكهف: 34].
فما السبب في ذلك؟
ألم يتخذ صاحب الجنتين جميع الأسباب المادية؟ ونجح وأمثاله من أهل الشرق والغرب في ذلك أيّما نجاح؟!
الجواب:بلى، ولكن صاحب الجنتين غفل كما غفل كثيرٌ من أهل المشرق والمغرب عن أهم سبب للعزة والمنعة ودوامها في الدنيا والآخرة،ولم ينتبه إليه إلاَّ بعد أن خرج الأمر من يده وهو توحيد الله ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ [الكهف: 42] نعم، إنه الشرك بالله، سببُ كل شر وأصله،قال تعالى﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ [إبراهيم: 26] وقال تعالى ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: 31] وقال تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: 96] وهذا معقد الكلام وتحقيق المسألة في سبب ورود المصائب والجوائح على البشر دون أن يعرفوا السبب الحقيقي، ألا وهو الشرك بالله، الذي هوّنَ من شأنه أهل البدع وذلك بتهوينهم أمر التوحيد وتحقيقه،وخصوصاً توحيد الإلهية، ومن الذين وقعوا في هذا الأمر من أهل البدع والأهواء تنظيم الإخوان من سروريين وغيرهم ،فتراهم لا يتطرقون إلى توحيد الإلهية وإن تطرقوا له كان تركيزهم على مسائل في توحيد الإلهية تخدم منهجهم الحركي ويتركون غيرها؛ لأنَّ التطرق لغيرها يضر بمنهجم الحركي، فابتدعوا توحيد الحاكمية وجعلوه قسمًا رابعًا من أقسام التوحيد في حيلة إبليسية واقتطعوه بشكلٍ محرف عن توحيد الله؛ ليخدم تحريفهم هذا أفكارهم الحزبية، وتركوا الدعوة إلى التوحيد الذي بعث الله من أجله الرسل ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: 36] وقال تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُون﴾ [الأنبياء: 25].