لابد أن يُعلم بأن هذا الشهر الكريم كما هو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن ، هو أيضاً شهر النصر وعلو الحق ومعركة الفرقان ، فيه وقعت غزوة بدر الكبرى والتي كانت للحق وأهله نصراً عظيماً وعزة ، وللباطل وحزبه هزيمةً نكراء وذلة .. واليوم حديثي لكم في المقال الثاني من هذه السلسة عن النصر ومفهومه الجميل الآخر ، عن معناه العميق المستوحى من قول الله العظيم عن رسوله الكريم ( إلا تنصروه فقد نصره الله ) فعندما طارده كفار قريش بغرض البطش به والنيل منه ، فرَّ منهم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم واختبأ في غار ثور برفقة صاحبه الوفي أبى بكر رضي الله عنه ، ولم يتمكن رجالات قريش وأوغادها من الوصول إليهما أو إلحاق الضرر بهما ، مع أنهم بذلوا في تتبع أثرهم أقصى ما لديهم من السعي الحثيث والتقصي الماكر الخبيث ، ولكنَّ الله أخزاهم ، فعادوا من حيث أتوا وهم يجرون أذيال الخيبة والندامة !
ومن هذه القصة العظيمة انتقل إلى زبدة المقال ولُبِّه مستعرضاً فيه الوجه الآخر للنصر ، والذي هو في واقع الحال وجهه الأنصع والأروع ! ولإيضاح هذا المعنى أقول : إن الشيخ ابن سعدي رحمه الله أثناء تفسيره للآية آنفة الذكر أشار إلى أن النصر على قسمين ، الأول : أن تظهر على العدو وتنال منه مرادك ، والثاني : أن يطمع فيك العدو ليؤذيك ويُسيء لك ، فيدفعه الله عنك ولا يُمكِّنه أبداً منك ، ثم قال عن هذا ما نصه ( ولعل هذا أنفع النصرين ) ! واختتم حديثه قائلاً : ونصر الله رسوله إذ أخرجه الذين كفروا من هذا النوع .. ولي بعد قوله البديع أن أقول : إن أجمل درس تعلمته من تجربتي مع النزاهة أن يُدرك المرء يقيناً أنه متى أحاطه الله بهذا النوع العجيب من النصر فلن يصله من سفلة الناس وشرارهم أدنى وأقلَّ أذى ، ففي ذلك الزمن البعيد عندما صرف الله عن نبيه كيد ومكر أولئك ، ها نحن نرى في زمننا الحاضر نصر الله لعباده على مَنْ هم على شاكلة أولئك ! إنها السنة الربانية التي لا تتبدل على مرِّ العصور ، فمتى كنتَ على الحق فلتبشر بحراسة الله ومعيته وحفظه ، ومتى كنتَ نزيهاً وحاربتَ الفساد من أجله فلتبشر بألطافه الخفية والتي هي أقوى ترسانة آمنة ستحميك من هجمات ورمي المفسدين ! نعم إنَّ كل قوى الدنيا ستخور أمام قوة وجبروت الله ، فكم وكم من المؤامرات و الدسائس التي أحبطها الله ، فانقلب أهل الحق والنزاهة بنعمةٍ من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوء ! وإنني من واقع التجربة الخاصة أؤكد أنَّ من التزم في عمله بالإخلاص والأمانة ، وواجه بحزمٍ كل من يُغريه بالفساد والخيانة ، فإن النصر المؤزر سيكون حليفه لا محالة !
فمن اليوم وفي هذا العهد الملكي الميمون لا تجعلوا في قلوبكم لأرباب الباطل مخافة ، ولتخدموا وطنكم بصدقٍ ونزاهة ، و عليكم لولاة أمره بالسمع والطاعة , قولوا كلمة الحق بشجاعة ، وحاربوا أهل الفساد بكل بسالة ، والله قدير على إبطال ما سيحبكه خصومكم من مكيدات ، وستقولون لهم حينها والبِشْر يعلو محياك ألا موتوا بغيظكم ، فلن تنالوا أيها المفسدون خيرا !! هذا والسلام ، ودُمتمْ يا شُرفاء في سِلْمٍ وسَلام .